تفشٍ محدود يثير القلق الصحي في شمال إفريقيا
أعلنت وزارة الصحة الجزائرية عن تسجيل حالتين من الوفيات بسبب مرض الدفتيريا (الخُنّاق) في ولاية سكيكدة شرق البلاد، في أول تفشٍ من نوعه منذ عقود.
وأكدت الوزارة في بيان رسمي أن الوضع “تحت السيطرة”، مشيرةً إلى حملة تلقيح استباقية شملت أكثر من 500 شخص وتكثيف المراقبة اليومية.
لكن الحدث أثار تساؤلات حول أسباب عودة مرضٍ قضت عليه الجزائر منذ خمسينيات القرن الماضي بفضل برامج التطعيم، وما إذا كانت البلاد والمنطقة تواجهان فجوات جديدة في الحماية المناعية.

عودة البكتيريا القديمة في زمن الذكاء الاصطناعي
بينما يشهد الطب سباقًا عالميًا نحو علاجات متقدمة بالذكاء الاصطناعي والعلاج الجيني، جاءت عودة الدفتيريا لتذكّر بأن الأوبئة لا تحتاج إلى تقنيات حديثة كي تعود، بل إلى غفلة واحدة في منظومة الوقاية.
المرض الذي اختفى لعقود عاد في الأسابيع الماضية ليس في الجزائر فحسب، بل في موريتانيا ونيجيريا واليمن، ما جعل خبراء الصحة يتحدثون عن “عودة الأمراض المنسية” في مناطق ضعيفة البنية الصحية.
انتشار الدفتيريا متدرج في الإقليم
في موريتانيا، أعلنت وزارة الصحة تسجيل 15 وفاة وأكثر من 200 إصابة في ولايتي الحوضين والعصابة جنوبي البلاد.
أما في نيجيريا، فقد تخطى عدد الإصابات 14 ألف حالة خلال عام 2023. معظمها بين الأطفال غير المطعمين، فيما سُجلت أكثر من 600 وفاة.
وفي اليمن، وثّقت منظمة الصحة العالمية بين عامي 2017 و2020 أكثر من 6700 إصابة و400 وفاة. بسبب انهيار برامج التطعيم في مناطق الصراع.
هذه الوقائع، بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، تبرز أن الدفتيريا لم تُمحَ تمامًا. بل ظلت كامنة في مجتمعات ضعيفة التحصين تنتظر فرصة للظهور.
ما هو مرض الدفتيريا؟
الدفتيريا أو “الخُنّاق” مرض مُعدٍ تسببه بكتيريا Corynebacterium diphtheriae.
ينتقل عبر الرذاذ التنفسي أو ملامسة الأسطح الملوثة، وتكمن خطورته في السمّ الذي تفرزه البكتيريا. إذ يهاجم القلب والأعصاب والكليتين وقد يؤدي إلى الوفاة في حال تأخر العلاج.
تظهر الأعراض خلال يومين إلى خمسة أيام وتشمل:
- التهابًا حادًا في الحلق وصعوبة في البلع.
- حمى وصداعًا وبحّة في الصوت.
- غشاء رمادي سميك في الحلق قد يسدّ مجرى التنفس.
- وفي الحالات الشديدة، شلل أو التهاب في عضلة القلب بسبب السموم المنتشرة في الدم.
علاج مرض الدفتيريا:
يعتمد الأطباء على العلاج الفوري دون انتظار نتائج المختبر، باستخدام:
- مضاد السّمّ الخُنّاقي (Antitoxin) لتحييد السموم المنتشرة في الجسم.
- مضادات حيوية (بنسلين أو إريثروميسين) للقضاء على البكتيريا ومنع انتقال العدوى.
- العزل الطبي والرعاية الداعمة لتجنّب مضاعفات تنفسية خطيرة.
يؤكد الأطباء أن كل ساعة تأخير في العلاج قد تكون فارقة بين الحياة والموت.
لقاح قديم أنقذ العالم
في عشرينيات القرن العشرين، طوّر العالم الفرنسي غاستون رامون لقاح “التوكسويد” المضاد للدفتيريا في معهد باستور بباريس.
ومنذ إدخاله إلى برامج التطعيم العالمية، انخفضت الإصابات بنسبة تفوق 99% في أوروبا وأمريكا.
في السبعينيات، أصبح اللقاح جزءًا من اللقاح الثلاثي (DTP) إلى جانب التيتانوس والسعال الديكي، وأنقذ ملايين الأطفال حول العالم.
لكن منظمة الصحة العالمية حذّرت عام 2024 من “تراجع خطير في معدلات التطعيم” بعد جائحة كورونا، بسبب تعطّل الحملات المدرسية وفقدان جرعات في الدول النامية، ما خلق “فراغات مناعية” مقلقة.

حين تتراجع المناعة الجماعية
عودة الدفتيريا، وفقًا لخبراء منظمة الصحة العالمية، ليست فشلًا في الطب الحديث، بل في الالتزام بالتطعيم.
ففي دول مثل الجزائر وموريتانيا، تظهر البيانات أن بعض الفئات الريفية لم تحصل على جرعات التحصين الكاملة، أو لم تتلقَّ الجرعات المعززة التي تُعطى كل عشر سنوات.
كما ساهمت حملات التضليل ضد اللقاحات في بعض المجتمعات في تراجع الإقبال، ما جعل أمراضًا منسية تجد طريق العودة مجددًا.
درس من الماضي
كان الدفتيريا في القرن التاسع عشر معروف باسم “القاتل الخانق”، حين كانت موجات الوباء تفتك بآلاف الأطفال في أوروبا وأمريكا الشمالية خلال أشهر.
تغيّر كل ذلك بفضل اللقاح، لكن التراخي في تطبيق برامج التحصين قد يعيد التاريخ، كما يرى الأطباء في الجزائر اليوم.
يقول أحد المختصين في علم الأوبئة بجامعة الجزائر:
“الأمر ليس تفشيًا واسعًا، بل تذكير بأن اللقاح أهم من أي علاج. لقد انتصرنا على المرض سابقًا… فقط لأننا لم نتوقف عن التطعيم.”

اللقاح ليس رفاهية
ما يحدث في الجزائر والمنطقة ليس مجرد حدث وبائي عابر، بل تحذير مبكر من أن المكاسب الصحية يمكن أن تتراجع بسرعة إذا أهملت برامج الوقاية.
فبكتيريا عمرها أكثر من قرن استطاعت أن تذكّر العالم بأن الأمن الصحي يبدأ بإبرة واحدة.