حين يتحوّل حصن “سان غوتارد” في جبال سويسرا
إلى قاعدة تدريب لرحلات القمر المستقبلية
في أعماق جبال الألب السويسرية، حيث الظلام والبرودة يسيطران على كل شيء، يعيش مجموعة من الطلاب تجربة تحاكي الحياة على سطح القمر. داخل حصن “سان غوتارد” العسكري السري سابقًا، حيث تجرى واحدة من أكثر التجارب الواقعية لإعداد الجيل القادم من روّاد الفضاء.

مهمة على القمر… من قلب جبال سويسرا
في يوليو الماضي، دخل تسعة طلاب من تسع دول مختلفة إلى شبكة أنفاق تمتد 3.5 كيلومترات داخل الجبل، ليعيشوا عزلة تامة لمدة 16 يومًا ضمن برنامج Asclepios – أول مبادرة فضائية طلابية في العالم مدارة بالكامل من قبل طلاب جامعيين من أوروبا وأمريكا وآسيا.
حصن سان غوتارد.. القاعدة الصخرية التي كانت خلال الحرب العالمية الثانية حصنًا للدفاع السويسري، تحوّلت اليوم إلى مختبرٍ يحاكي ظروف القمر والمريخ:
درجة الحرارة ثابتة عند 6 درجات مئوية، الجدران مغطاة بالصقيع، والهواء ثقيل كأنه من عالمٍ آخر.
حصن سان غوتارد.. تجربة تحاكي الحياة خارج الأرض
في الحقيقة داخل هذا “القمر الأرضي”، عاش الفريق دورة حياة مكتملة تشبه بعثات وكالة “ناسا” و”وكالة الفضاء الأوروبية”. ارتدى الطلاب بدلات فضاء، وتناولوا الطعام المجفف، وناموا وفق جدول صارم لا يتعرضون فيه لضوء الشمس مطلقًا. حتى المشي خارج القاعدة، أو ما يسمّى بـ”النشاطات القمرية” كان يتم ليلًا فقط، بهدف دراسة تأثير الظلام الدائم على النوم والمزاج والصحة الجسدية.
“نحن نحاول فهم التحديات البشرية في بيئة القمر… كيف يتأقلم الجسد والعقل مع العزلة والظلام والبرد. هذه التجارب تساعد وكالات الفضاء على دعم روّاد المستقبل بشكلٍ أفضل.”
كاتي مولري، قائدة المشروع وطالبة هندسة فضاء من فرنسا

العلم في خدمة الإنسان والفضاء
شارك الفريق في تجربة علمية رائدة بعنوان “Kronoespazio” بالتعاون مع جامعات في إسبانيا وسويسرا وأستراليا، لدراسة تأثير انعدام الضوء على هرمون الميلاتونين، والنوم، وإيقاع الساعة البيولوجية.
النتائج ستُنشر في مجلات علمية متخصصة، وقد تُستخدم ليس فقط في إعداد روّاد الفضاء، بل أيضًا لمساعدة الأطباء والممرضين والعاملين في نوبات ليلية طويلة.
تقول الباحثة ماريا سوبراتس، المشرفة على الدراسة:
“الفضاء يُعلّمنا عن الإنسان أكثر مما نتخيّل… ما نكتشفه هناك يمكن أن يُحسّن حياة الناس هنا على الأرض.”
قيادة ومهارات تتجاوز المختبر
الطلاب أدّوا أدوارًا كاملة تحاكي بعثة حقيقية: قائد، ضابط علمي، مهندس قاعدة، وخبير اتصال بمركز التحكم.
مما كان عليهم اتخاذ قرارات حقيقية في بيئة خالية من الإشارة، وفي ظل ضغط نفسي وبدني مستمر.
يقول ماتيوس ماغالهايس، قائد البعثة البرازيلي:
“كل يوم كنا نتعامل مع مواقف مفاجئة، من أعطال في النظام إلى مشكلات في التواصل، وكأننا فعلًا في الفضاء. هذه التجربة أعادت تعريف معنى القيادة تحت الضغط.”

من سويسرا إلى القمر… ثم إلى الأرض
تُعدّ مبادرة Asclepios تجربة فريدة لأنها مجانية بالكامل، بعكس أغلب البرامج المشابهة في العالم.
يعتمد القائمون عليها على التبرعات والرعايات، ما يفتح الباب أمام طلاب من خلفيات مختلفة لخوض تجربة فضائية متكاملة.
لكن الهدف الأبعد ليس فقط تدريب روّاد فضاء، بل تطوير تقنيات يمكن أن تفيد الأرض:
أنظمة تدوير المياه، الزراعة في البيئات القاسية، وترشيد الطاقة.
“إذا تعلّمنا كيف نعيش بكفاءة على القمر، سنعرف كيف نحافظ على مواردنا على الأرض.”
لورين بولسون، مهندسة القاعدة الأمريكية

الفضاء يبدأ من الجبال
عندما خرج الفريق من النفق بعد انتهاء المهمة، احتاجوا بضع دقائق لتعوّد أعينهم على ضوء الشمس من جديد.
لكنهم خرجوا مختلفين، أكثر انضباطًا، وأكثر فهمًا للذات، وربما أقرب خطوةً نحو النجوم.
“قد تكون بداية الرحلات إلى القمر… قد بدأت فعلًا من هذا الجبل في سويسرا.”
