في عالم الفن العربي، قليلون هم من استطاعوا حفر أسمائهم بحروف من ذهب في ذاكرة أجيال متعاقبة. الفنانة الاستعراضية المصرية شريهان هي واحدة من هؤلاء القلائل، بل ربما تكون الأكثرهم بريقًا وتأثيرًا.
شريهان ظاهرة فنية متكاملة، جمعت بين الموهبة والكاريزما والقدرة على التجدد.
مؤخراً، وفي ليلة تاريخية شهدتها مصر، عادت شريهان لتخطف الأضواء من جديد في حفل افتتاح المتحف المصري الكبير، مذكرةً الجميع بأن وهجها لم يخفت قط.
هذا المقال يأخذكم في رحلة عبر مسيرة “حسناء هوليوود الشرق”، من بداياتها المبكرة، مرورًا بعصرها الذهبي كملكة للفوازير والمسرح، وصولًا إلى معاركها الشخصية وعودتها المظفرة التي تليق بأيقونة بحجمها.
عودة ملكية: شريهان تتوج مسيرتها في افتتاح المتحف المصري الكبير
في الأول من نوفمبر 2025، وفي حدث استثنائي انتظره العالم. أطلت شريهان على مسرح حفل افتتاح المتحف المصري الكبير كجزء من احتفالية ضخمة تليق بعظمة التاريخ المصري. لم تكن مشاركتها عادية، بل كانت بمثابة رسالة فنية وثقافية عميقة. ظهرت بفستان ذهبي لامع، حمل توقيع مصمم الأزياء العالمي إيلي صعب. الذي استوحى تصميمه من النقوش الفرعونية، ليجسد حوارًا بين الفن المعاصر والحضارة القديمة.
ورغم أن ظهورها كان قصيرًا نسبيًا، إلا أنه أحدث ضجة واسعة على منصات التواصل الاجتماعي. عبرت شريهان عن فخرها الشديد بهذه المشاركة، واصفة إياها في مداخلة هاتفية بأنها “شرف وتتويج لعمري ومسيرتي”. وأضافت: “أنا مصرية وأنتمي وأتشرف بانتمائي لأقدم شعب في التاريخ، وأول حضارة”. هذه الكلمات لمست قلوب الملايين، وعكست ارتباطها العميق بوطنها.
“الشرف كل الشرف لي، أنا متشكرة وما فيش أعظم من النهارده تتويج لعمري ومسيرتي ولشريهان.”
شريهان، مجلة سيدتي
وكما هي العادة مع أي ظهور لأيقونة بحجمها، تباينت الآراء. فبينما احتفى الأغلبية بعودتها ورأوا فيها تجسيدًا للجمال والقوة. اعتبر البعض أن الأداء كان “باهتًا” بعض الشيء، مقارنة بما كانت تقدمه في أوج تألقها. لكن، وبغض النظر عن الآراء، نجحت شريهان مرة أخرى في أن تكون حديث الساعة. مثبتةً أنها رقم صعب في معادلة الفن العربي، وأن حضورها وحده يكفي لإشعال المسرح. .
البدايات: طفلة معجزة في عائلة فنية
ولدت شريهان أحمد عبد الفتاح الشلقاني في 6 ديسمبر 1964 بالقاهرة، في بيئة جمعت بين القانون والفن. والدها كان المحامي البارز أحمد الشلقاني، ووالدتها السيدة عواطف هاشم.
لكن الرابط الفني الأقوى في طفولتها كان من خلال أخيها غير الشقيق، عازف الجيتار الأسطوري عمر خورشيد، الذي فتح لها أبواب الوسط الفني وهي لا تزال طفلة.
بدأت حياتها الفنية في الرابعة من عمرها، ودرست الرقص التعبيري في باريس، مما صقل موهبتها الفطرية بأساس أكاديمي متين. اكتشفها الفنان عبد الحليم حافظ، وشاركت في أعمالها الأولى مثل فيلم “ربع دستة أشرار” و”قطة على نار” (1978).
لكن النقلة الحقيقية التي قدمتها للجمهور كنجمة واعدة كانت في فيلم “الخبز المر” (1982) أمام عملاق التمثيل فريد شوقي، حيث أظهرت نضجًا فنيًا فاق عمرها الصغير.
ملكة الاستعراض: عصر الفوازير والمسرح الذهبي
إذا كانت الثمانينيات هي فترة بزوغ نجمها، فإن منتصفها وحتى التسعينيات كان عصر التربع على عرش الفن الاستعراضي في العالم العربي. أصبحت شريهان الظاهرة التي ينتظرها الملايين كل عام في شهر رمضان.
فوازير رمضان: أيقونة لا تُنسى
في عام 1985، دخلت شريهان عالم الفوازير، وسرعان ما أصبحت النجمة الأولى في هذا المجال مناصفةً مع الفنانة الكبيرة نيللي. لم تكن فوازيرها مجرد استعراضات راقصة، بل كانت لوحات فنية متكاملة تجمع بين التمثيل والغناء والأزياء المبتكرة والأفكار غير المسبوقة. من أشهر أعمالها:
• ألف ليلة وليلة (1985، 1986، 1987):
قدمت شخصيات أسطورية مثل “عروس البحور” و”وردشان”، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من طقوس رمضان.
• حول العالم (1987):
طافت بالمشاهدين في رحلة استعراضية حول ثقافات العالم المختلفة.
• حاجات ومحتاجات (1993):
عادت بعد انقطاع لتقدم فوازير ذات طابع كوميدي واجتماعي فريد.
عمالقة على خشبة المسرح
لم يقتصر إبداع شريهان على الشاشة الصغيرة، بل كانت نجمة مسرحية من الطراز الرفيع. وقفت أمام عمالقة المسرح المصري وقدمت أعمالًا خالدة لا تزال تعرض حتى اليوم وتحقق نسب مشاهدة عالية، أبرزها:
• سك على بناتك: وقفت فيها أمام الفنان الكبير فؤاد المهندس، ورغم صغر دورها، تركت بصمة لا تُنسى.
• علشان خاطر عيونك: مسرحية استعراضية ضخمة قدمت فيها دور البطولة المطلقة أمام فؤاد المهندس أيضًا، وأظهرت قدراتها الاستعراضية الهائلة.
• شارع محمد علي (1994): عمل استعراضي ضخم جمعها بالملك فريد شوقي ووحيد سيف، وكانت بمثابة عودة قوية لها بعد محنة كبيرة.
رحلة الصمود: قصة شيريهان في تحدي الألم ومرض السرطان
خلف بريق الشهرة والأضواء، خاضت شريهان معارك شخصية قاسية كشفت عن معدنها الصلب وإرادتها التي لا تلين. كانت حياتها سلسلة من التحديات التي واجهتها بقوة وشجاعة ألهمت الملايين.
حادث 1990: حين توقف الزمن
في أوج نجاحها عام 1990، تعرضت لحادث سيارة مروع أدى إلى إصابات بالغة وكسر في العمود الفقري. أجمع الأطباء آنذاك على صعوبة عودتها للمشي، ناهيك عن الرقص والاستعراض. لكن شريهان تحدت كل التوقعات، وبعد رحلة علاج طويلة وشاقة استمرت لسنوات، عادت لتقف على خشبة المسرح في مسرحية “شارع محمد علي”، في عودة أسطورية أثبتت أنها قادرة على قهر المستحيل
معركة السرطان: غياب طويل وعزيمة أقوى
في عام 2002، وبعد انتهائها من تصوير فيلم “العشق والدم”، واجهت شريهان التحدي الأكبر في حياتها، حيث تم تشخيص إصابتها بأحد أندر أنواع السرطان في الغدد اللعابية. خاضت معركة شرسة مع المرض، تضمنت جراحات دقيقة ومعقدة في الخارج، مما أبعدها عن الأضواء لسنوات طويلة قاربت العقدين. خلال هذه الفترة، تحولت من أيقونة للفن إلى أيقونة للأمل والصمود، وظل جمهورها وفيًا لها، يتابع أخبارها ويدعو لها بالشفاء.
شريهان.. إرث يتجدد
لم يكن غياب شريهان نهاية لأسطورتها، بل كان فصلًا جديدًا في حكايتها. فاجأت الجميع في رمضان 2021 بعودتها من خلال إعلان تلفزيوني ضخم، جسدت فيه قصة صراعها وعودتها للحياة، في عمل فني أبكى الملايين وأعاد إحياء مكانتها في قلوب جيل جديد لم يعاصر عصرها الذهبي. تبع ذلك عرض مسرحيتها المؤجلة “كوكو شانيل” التي جسدت فيها قصة مصممة الأزياء الفرنسية الشهيرة، لتؤكد أنها لا تزال قادرة على الإبهار.
على الصعيد الشخصي، تزوجت شريهان من رجل الأعمال الأردني “علاء الخواجة”، وأنجبت منه ابنتيها “لؤلؤة” و”تالية القرآن”، اللتين تعتبرهما أعظم إنجازاتها. وعلاقتها بزوجها وزوجته الأولى الفنانة إسعاد يونس أصبحت مثالًا يُحتذى في الرقي والتعايش الأسري.
اليوم، ومع إطلالتها في حفل افتتاح المتحف المصري الكبير، تؤكد شريهان أنها ليست مجرد ذكرى من الماضي الجميل، بل هي حاضر فني متجدد ومستقبل واعد.
إنها قصة فنانة هزمت الألم، وتحدت الزمن، وعادت في كل مرة أكثر قوة وبريقاً، لتظل شمساً لا تغيب في سماء الفن العربي.
