من حياة الترف في أحياء لندن الراقية إلى زنزانة باردة في سجن بريطاني، انتهت رحلة “ملكة الكريبتو” كما بدأتها: على خيوط من الطمع والوهم.
فبعد سنوات من الهروب من العدالة الصينية، أصدرت محكمة بريطانية حكمًا بالسجن أحد عشر عامًا وثمانية أشهر على تشيان جيمين، سيدة الأعمال التي جمعت أكثر من خمسة مليارات جنيه إسترليني من أموال عشرات الآلاف من المستثمرين الصينيين، عبر واحدة من أضخم عمليات الاحتيال المرتبطة بالعملات المشفّرة في التاريخ الحديث.
الكريبتو.. إمبراطورية من الوهم والذهب الرقمي
في عام 2014، أسست تشيان شركة تُدعى لانتيان غيروي (أو بلو سكاي جريت)، كانت تُسوّق نفسها كمشروع تكنولوجي متقدم في مجال التعدين الرقمي وصناعة الأجهزة الطبية الذكية.
لكن خلف الواجهات اللامعة والعروض التسويقية الفخمة، كانت الشركة آلة احتيال ضخمة تستهدف كبار السن والمستثمرين الصغار في أنحاء الصين.
أكثر من 120 ألف شخص استثمروا مدخراتهم في المشروع. كانت الشركة تُغريهم بأرباح خيالية تصل إلى 200% خلال عامين، وتُقدّم لهم تحويلات رمزية يومية لإيهامهم بصدق الأرباح.
إحدى الحيل النفسية، كما كشف المحققون، كانت تعتمد على “التقطير المالي”: دفع مبالغ صغيرة بشكل يومي لخلق شعور بالنجاح الوهمي، تمامًا كما تفعل شركات التسويق الهرمي.
لكن في الحقيقة، كانت الأموال تُحوّل إلى حسابات تشيان في الخارج، حيث اشترت عقارات فاخرة ومجوهرات وممتلكات، بينما أُجبر آلاف المستثمرين على الاقتراض لسداد ديونهم أو خسروا كل ما يملكونه.

من الهروب إلى الثراء المزيّف
مع بدء التحقيقات في الصين عام 2017، غادرت تشيان البلاد بجواز سفر مزور، لتصل إلى لندن وتستأجر قصرًا في منطقة هامبستيد الراقية بإيجار شهري يفوق 17 ألف جنيه إسترليني.
كانت تقدم نفسها في الأوساط اللندنية على أنها وريثة لثروة من الألماس والتحف القديمة، وتنفق بسخاء على السفر والتسوق والرفاهية.
لكن خلف الأبواب المغلقة، كانت تحتفظ بواحدة من أكبر محفظات البيتكوين في العالم، مخزّنة على أقراص صلبة في قبو منزلها.
وحين داهمت شرطة العاصمة البريطانية المنزل عام 2022، صادرت أجهزة محمّلة بأكثر من عشرات الآلاف من وحدات البيتكوين — في ما وصفته السلطات بأنه أضخم ضبط فردي للعملة المشفرة في تاريخ المملكة المتحدة.
حلم “ملكة ليبرلاند”
في مذكراتها الشخصية، التي عُثر عليها أثناء التحقيق، كشفت تشيان عن خطط فانتازية لبناء إمبراطورية خاصة.
كانت تحلم بتأسيس بنك دولي، وشراء قلعة سويدية، بل وحتى أن تصبح “ملكة ليبرلاند”، وهي دولة صغيرة غير معترف بها على ضفاف نهر الدانوب بين كرواتيا وصربيا.
خططها تضمنت تخصيص ملايين الجنيهات لتمويل هذا الحلم، متجاهلة آلاف العائلات التي فقدت كل شيء بسببها.

من قصائد الحب إلى قصائد الخداع
كانت تشيان تمتلك موهبة شعرية استخدمتها كأداة تلاعب نفسي.
كتبت للمستثمرين قصائد مؤثرة حول “محبة كبار السن” و“نهضة الصين بالتكنولوجيا”، في أسلوب جمع بين الوطنية والعاطفة والربح السريع.
ولأنها استغلت رموزًا وطنية وشخصيات مقربة من عائلة الزعيم ماو تسي تونغ لترويج شركتها، فقد بدت لضحاياها كرمز “وطني صادق”.
يقول أحد المستثمرين المتضررين:
“قالوا لنا إن صهر ماو نفسه يدعمها، فكيف نشك بها؟ لقد استغلت حبنا للوطن… وجعلته وسيلة لسرقتنا.”
الانهيار الكبير لمؤسسة عملة الكريبتو
في منتصف عام 2017، توقفت الشركة عن دفع الأرباح، لتبدأ موجة من الذعر بين المستثمرين.
لكن المدراء المحليين — الذين كان بعضهم قد تلقّى رشاوى من تشيان — أقنعوا الضحايا بالانتظار، مؤكدين أن التحقيقات مؤقتة.
في تلك الأثناء، كانت “ملكة الكريبتو” قد غادرت البلاد نهائيًا، ومعها مفاتيح الوصول إلى الثروة الرقمية المسروقة.
بعد وصولها إلى بريطانيا، استعانت بمساعدين صينيين لإدارة أموالها وتبديل العملات الرقمية إلى نقد وعقارات، لكن إحدى الصفقات العقارية الكبرى في منطقة توتردج كومون أثارت شكوك الشرطة. لتبدأ عملية تعقّب انتهت باعتقالها في مدينة يورك العام الماضي.
العدالة البطيئة… والأمل المر
أصدرت محكمة ساوثوارك كراون في لندن حكمها هذا الأسبوع، ووصفت القاضية تشيان بأنها “العقل المدبّر لجريمة وُلدت من الجشع النقي”.
لكن رغم الحكم، لا يزال مصير الثروة الرقمية التي تعادل اليوم أكثر من 5 مليارات جنيه إسترليني غير محسوم.
فالقضية المدنية الخاصة بـ“عوائد الجريمة” ستبدأ أوائل العام المقبل. حيث يسعى آلاف المستثمرين الصينيين لاستعادة أموالهم، في واحدة من أكثر الدعاوى تعقيدًا في التاريخ المالي الحديث.
يقول أحد الضحايا:
“لا نطلب المستحيل. فقط القليل مما خسرناه… لأن حياتنا تحطمت بالكامل.”
إمبراطورية السحر الرقمي
قصة تشيان جيمين ليست مجرد عملية احتيال كبرى، بل مرآة تعكس عصر الجشع الرقمي. حين تتحول التكنولوجيا من وسيلة ابتكار إلى أداة وهم.
فبينما وعدت المستثمرين بأن “يصبحوا أثرياء وهم نائمون”، انتهى بهم الأمر فقراء لا ينامون من الندم.
وفي عالم بلا حدود ولا رقابة، تبقى العملات المشفّرة ساحة مثالية لأبطال الظل أولئك الذين يصنعون الثروة من الهواء، ثم يختفون في عواصم العالم المضيئة.