مع اقتراب هدنة غزة من التحول إلى واقع دائم، تتجه الأنظار إلى السؤال الذي يختبر جوهر وجود حركة حماس:
هل يمكنها البقاء كقوة سياسية إذا ألقت سلاحها؟
ليس هذا مجرد نقاش تكتيكي حول ترتيبات أمنية أو شروط إعادة إعمار، بل معركة هوية تحدد إن كانت الحركة قادرة على الانتقال من شرعية المقاومة إلى شرعية الحكم.
الشرعية التي صُنعت بالدم
منذ تأسيسها في أواخر الثمانينيات، لم تُبنَ شرعية حماس على صناديق الاقتراع، بل على السلاح والمواجهة.
فالمقاومة كانت خطابها، والدم كان وقود شرعيتها.
ولهذا، فإن الحديث عن نزع سلاحها لا يعني فقط تفكيك بنيتها العسكرية، بل إعادة تعريف سبب وجودها ذاته.
ففي نظر قواعدها الشعبية، البندقية ليست وسيلة ضغط، بل رمز هوية.
وكل خطوة باتجاه التخلي عنها تُفسَّر كخيانة لتاريخ طويل من “الشهداء والمقاومة”.
وفي منطقة يُقاس فيها النفوذ بمدى السيطرة على الأرض والسلاح، فإن التنازل عن البندقية يعادل، سياسياً، الانسحاب من المشهد.

المعضلة الوجودية: السياسة بلا سلاح
حماس اليوم أمام خيار مستحيل:
القبول بتجريدها من السلاح مقابل اعتراف دولي ودور سياسي محدود، أو الاحتفاظ بترسانتها والمخاطرة بمواجهة عسكرية مدمّرة.
الاحتمال الأول يعني تفكيك الحركة من الداخل، أما الثاني فيعني استمرار الحرب الدائمة التي أنهكت القطاع.
اللافت أن الحركة، منذ سيطرتها على غزة عام 2007، لم تنجح في التحول إلى نموذج “حكم مدني” مستقر.
اقتصادها محاصر، سلطتها منبوذة دوليًا، وحكمها يتآكل تحت ضغط الفقر والبطالة والعزلة.
ومع ذلك، بقيت حماس تمسك بأقوى أوراقها: الاحتكار الكامل للقوة.
لكن هذا الاحتكار مهدد اليوم، ليس فقط من إسرائيل، بل من تغيرات داخلية أعمق.
فالمجتمع الغزي المنهك من الحروب المتكررة بدأ يطرح أسئلة خطيرة:
هل المقاومة المسلحة ما زالت تحميهم… أم تحبسهم في دائرة الخراب؟
بين واشنطن وتل أبيب والعواصم العربية
الضغط على حماس هذه المرة يأتي من اتجاهات متقاطعة.
إسرائيل تريد إنهاء “الخطر المسلح” نهائياً.
واشنطن ترى في نزع السلاح شرطًا لأي تسوية أوسع في الشرق الأوسط.
أما بعض العواصم العربية، التي طالما أبقت خطوطًا رمادية مع الحركة، فتبدو اليوم أكثر ميلاً لاحتواء غزة ضمن نظام إقليمي مستقر بلا فصائل مسلحة.
في المقابل، تدرك حماس أن قبولها الكامل بالشروط سيجعلها نسخة فلسطينية من “حزب سياسي منزوع الدسم”، بلا تأثير حقيقي ولا جمهور مؤمن بجدواها.
بينما الرفض يعني عزلة مطلقة ومصيرًا شبيهًا بالتنظيمات التي احترقت سياسياً بعد انغلاق ساحات القتال.

البديل الغائب
لكي تتخلى حماس عن السلاح، تحتاج إلى بديل يضمن بقاءها كفاعل سياسي، وهذا البديل غير موجود بعد.
لا مؤسسات فلسطينية موحّدة، ولا انتخابات قريبة، ولا ثقة بين الفصائل.
ولذلك، فإن كل مبادرة لنزع السلاح ستواجه سؤالًا وجوديًا داخل الحركة:
“نحن من دون البندقية… من نكون؟”
في الأنظمة السياسية الراسخة، يُبنى النفوذ عبر المؤسسات، لكن في العالم العربي، حيث الدولة ضعيفة والفصائل أقوى من القانون، يبقى السلاح هو الضمانة الوحيدة لأي سلطة محلية.
ولهذا، فإن تخلي حماس عنه يعني التخلي عن الضمانة الوحيدة لبقائها.
سلاح تحت الأرض… وصراع فوقها
اللافت أن الحديث عن نزع السلاح لا يعني بالضرورة إنهاء القدرات العسكرية.
ففي بنية حماس، البنية التحتية للأنفاق والمصانع والاتصالات قائمة على نظام سري محكم.
حتى لو أعلنت الحركة “تجميد المقاومة”، فإن إعادة بناء قوتها لا تحتاج سوى أشهر.
بعبارة أخرى، يمكن للحركة أن “تتخلى عن السلاح علنًا، وتحتفظ به سرًا” — وهو السيناريو الذي تخشاه إسرائيل أكثر من الحرب نفسها.
غزة بعد السلاح
من الناحية النظرية، يمكن أن يفتح نزع السلاح الباب لإعادة إعمار حقيقية للقطاع ولاندماج مؤسسات غزة في النظام الفلسطيني الموحد.
لكن على الأرض، قد يؤدي تفكيك جهاز حماس الأمني إلى فوضى داخلية، وعودة الفصائل الصغيرة والعائلات المسلحة لملء الفراغ.
وهو السيناريو الذي تخشاه الدول العربية بقدر ما تخشاه حماس نفسها.
الخلاصة: حركة على حافة التناقض
حماس اليوم ليست في معركة مع إسرائيل فحسب، بل في صراع مع ذاتها.
إنها تواجه السؤال الذي لا مفر منه لكل الحركات المسلحة التي تصل إلى السلطة:
هل تستطيع البقاء بلا بندقية؟
الجواب حتى الآن: لا.
لكن السؤال الأكبر هو إلى متى يمكنها أن تبقى وهي تحملها؟