تُعد مدينة نيوم، المشروع الأكثر طموحاً ضمن رؤية السعودية 2030، بمثابة حجر الزاوية في مساعي المملكة لتنويع اقتصادها بعيداً عن النفط ورسم ملامح مستقبل جديد للحياة الحضرية. منذ إطلاقه في عام 2017، استحوذ هذا المشروع العملاق على اهتمام العالم بوعوده الجريئة وتصميماته التي تتحدى الخيال. ولكن مع حلول أواخر عام 2025، تقف نيوم عند مفترق طرق حاسم، حيث يمتزج التقدم الملموس على الأرض مع مراجعات استراتيجية تعكس نظرة أكثر واقعية.
ما هي نيوم؟ رؤية تتجاوز الخيال
في جوهرها، نيوم منطقة شاسعة في شمال غرب المملكة العربية السعودية، مصممة لتكون مختبراً عالمياً للمستقبل. تقوم الرؤية الأصلية على إنشاء نموذج حياة مستدام يعمل بالطاقة المتجددة بنسبة 100%، مع الحفاظ على 95% من طبيعة المنطقة. وتضم نيوم عدة مشاريع فرعية مبتكرة:
- ذا لاين (The Line): مدينة خطية ثورية بطول 170 كيلومترًا، مصممة لتكون خالية من السيارات والشوارع والانبعاثات الكربونية، وتعتمد على بنية تحتية عمودية تضع كل احتياجات السكان على بعد 5 دقائق سيراً على الأقدام.
- أوكساچون (Oxagon): مدينة صناعية عائمة على شكل مثمن، تهدف إلى أن تكون مركزاً للتقنيات المتقدمة والصناعات النظيفة.
- تروجينا (Trojena): وجهة سياحية جبلية فريدة من نوعها، تقدم تجارب تزلج في الهواء الطلق وأنشطة مغامرات على مدار العام.
- سندالة (Sindalah): جزيرة فاخرة في البحر الأحمر، مصممة لتكون وجهة عالمية لليخوت والسياحة الراقية.
هذه المشاريع مجتمعة تمثل رؤية جريئة تهدف إلى إعادة تعريف مفاهيم التنمية الحضرية والاستدامة وجودة الحياة.
“ذا لاين” في قلب العاصفة: تعديلات طموحة أم تراجع استراتيجي؟
يعتبر مشروع “ذا لاين” درة تاج نيوم، ولكنه واجه مؤخراً مراجعة كبيرة لأهدافه الأولية. فبعد أن كانت الخطط الأصلية تستهدف استيعاب 1.5 مليون نسمة بحلول عام 2030 ضمن مدينة تمتد لمسافة 170 كيلومترًا، كشفت تقارير حديثة في أواخر عام 2025 عن تعديل كبير لهذه الأهداف.
وفقًا لمصادر إعلامية موثوقة، تم تقليص المرحلة الأولى من المشروع بشكل كبير، حيث من المتوقع الآن أن تستوعب حوالي 300,000 ساكن فقط بحلول عام 2030، على امتداد بضعة كيلومترات فقط. يأتي هذا التغيير، الذي وصفه مسؤولون سعوديون بأنه “تصحيح للمسار”، استجابةً للضغوط المالية الناجمة عن انخفاض أسعار النفط والحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات المالية للمملكة.
“لقد أنفقنا الكثير… نحن الآن نواجه عجزاً. نحتاج إلى إعادة ترتيب الأولويات.” مسؤول سعودي
هذه المراجعة لا تعني بالضرورة نهاية الحلم، بل قد تكون تحولاً نحو نهج أكثر تدرجاً وواقعية في تنفيذ مشروع بهذا الحجم والتعقيد غير المسبوقين.
نبض البناء لا يتوقف: آخر التطورات على أرض الواقع
على الرغم من التعديلات في خطط “ذا لاين”، فإن وتيرة العمل في نيوم لم تتوقف. تشير أحدث التقارير من الموقع إلى وجود ما يقارب 140,000 عامل بناء يواصلون دفع عجلة الإنشاءات. هذا يؤكد أن المشروع لا يزال حياً، وإن كان يتطور بشكل مختلف عن المخطط له.
أما بالنسبة للمشاريع الأخرى، فلكل منها قصة تقدم مختلفة:
- سندالة: تم الإعلان عن افتتاحها “الكبير” في أواخر عام 2024، لكنها حتى وقت متأخر من عام 2025 لم تفتح أبوابها بالكامل للجمهور بعد، مما يشير إلى بعض التأخيرات التشغيلية.
- تروجينا: واجهت هي الأخرى تأخيرات، حيث من المتوقع الآن أن تكون جاهزة بحلول عام 2032 بدلاً من الموعد المقرر سابقاً.
- أوكساچون: لا تزال في مراحلها الأولى، ولكن العمل جارٍ على قدم وساق ومن المقرر الانتهاء من المرحلة الأولى في عام 2027.
هذه التطورات تظهر أن نيوم كيان معقد ومتعدد الأوجه، حيث يتم الموازنة بين الطموح الكبير والجدوى العملية.
نيوم 2025: مستقبل قيد التشكل
في نهاية المطاف، تمثل نيوم في عام 2025 قصة ملحمية عن الطموح البشري الذي يصطدم بحقائق الاقتصاد والفيزياء. إن التعديلات الأخيرة على مشروع “ذا لاين” ليست علامة على الفشل، بل هي دليل على نضج المشروع وتكيفه مع الواقع. فبناء مدينة من الصفر، خاصة بهذا الحجم من الابتكار، يتطلب مرونة وقدرة على إعادة التقييم.
تظل نيوم جزءاً لا يتجزأ من رؤية السعودية 2030، ورهاناً استراتيجياً على مستقبل ما بعد النفط. وبينما يراقب العالم عن كثب، تواصل المملكة المضي قدماً في هذا التحدي الهائل، محاولةً تحويل رؤيتها الجريئة إلى حقيقة ملموسة ومستدامة على أرض الواقع. المستقبل لا يزال قيد الكتابة في صحراء نيوم.