خيوط نزاع لا تشبه الحروب التقليدية
تشكّل العلاقة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني (PKK) واحدة من أطول النزاعات المسلحة غير الدولية في الشرق الأوسط. فهي ليست مجرد مواجهات بين دولة وتنظيم، بل تجسيد معقّد لتضارب الهويات، واحتقان سياسي، وتحوّلات إقليمية تراوحت بين التهدئة والانفجار.
في يوليو 2025، أعلن الرئيس التركي تشكيل لجنة برلمانية لمناقشة متطلبات نزع السلاح، بعد خطوة رمزية قام بها الحزب بتسليم سلاحه قرب السليمانية. ومع هذا التحوّل، تبرز أهمية العودة إلى الجذور لفهم لماذا نشأ الحزب، وكيف تسلّح، ولماذا تعثّر السلام مرات كثيرة.
النشأة والسياق الجيوسياسي:
نشأ حزب العمال الكردستاني عام 1978 بقيادة عبد الله أوجلان، في خضمّ سياسات قمعية كانت تمنع استخدام اللغة الكردية، وتحظر التعبير عن الهوية القومية للأكراد في تركيا. تأثّر الحزب بأيديولوجيا ماركسية قومية، وكان يطمح لتأسيس دولة كردية اشتراكية في الشرق التركي، ما جعله يصطدم مبكرًا بالدولة التركية التي اعتبرته خطرًا على وحدة أراضيها.
في عام 1984، أطلق الحزب تمرده المسلّح ضد الجيش التركي، انطلاقًا من جبال جنوب شرق تركيا وشمال العراق. حينها، كان السياق الإقليمي ملائمًا للتحركات المسلحة، إذ تزامن مع ضعف المركزية العراقية بعد الحرب الإيرانية، واستغلال المساحات الحدودية غير المنضبطة.
لماذا اختار الحزب السلاح؟
عُرِف حزب العمال برفضه للخطاب السلمي في بداياته، لاعتقاده أن المفاوضات لن تُنتج تنازلات حقيقية من الدولة. لجأ للسلاح لأسباب عدة:
- غياب الاعتراف الدستوري بالأكراد كمكوّن قومي مستقل
- الحرمان اللغوي والثقافي والمؤسساتي داخل تركيا
- انغلاق النظام السياسي التركي أمام الأحزاب الكردية لفترات طويلة
- رؤية الحزب للعنف كأداة ثورية لتغيير الواقع البنيوي
بحلول التسعينيات، توسّعت عملياته ليشمل مهاجمة قواعد عسكرية، منشآت أمنية، وحتى مناطق مدنية، ما دفع أنقرة لتصنيفه كـ”تنظيم إرهابي”، وبناء تحالف أمني إقليمي لاحتوائه.
التسليح والدعم الخارجي
ارتكز تسليح حزب العمال على مصادر غير مركزية:
- التهريب عبر الحدود العراقية والإيرانية
- علاقات غير مباشرة مع النظام السوري سابقًا الذي سمح لأوجلان بالإقامة
- الدعم المالي من المغتربين ومؤيدين أوروبيين خصوصًا في ألمانيا والنمسا
- صناعة محلية بدائية للسلاح وابتكار تكتيكات حرب عصابات من الجبال
ورغم عدم وجود راعٍ إقليمي ثابت، إلا أن استغلال حالة الانفلات الحدودي في كردستان العراق ساعد الحزب على تأسيس قواعد مستدامة.
الرد التركي… ومراحل التصعيد
قادت تركيا عشرات الحملات العسكرية، أبرزها:
- عملية “المطرقة الحديدية” 1998 وعمليات موسمية توغلية
- التعاون مع حكومة إقليم كردستان لضرب القواعد
- بناء جدار عازل تكنولوجي على الحدود الجنوبية
- إقحام سلاح الطائرات المسيّرة لاحقًا، ما غيّر ميزان القوة ميدانيًا
لكن رغم الضغط العسكري، فشلت تركيا مرارًا في اجتثاث التنظيم، بسبب تعقيدات الميدان الجبلي والتضامن الكردي المحلي مع بعض مطالب الحزب.
محطات تفاوضية وسلام مؤجَّل
شهدت العلاقة مراحل تهدئة أبرزها:
- الهدنة 1993: قوبلت بالقصف، وانتهت سريعًا
- محادثات أوسلو السرّية 2008 – 2011
- عملية السلام الرسمية بقيادة أردوغان (2013 – 2015) شهدت هذه المرحلة خطابًا تصالحيًا، وزيارات وفود إلى أوجلان في سجنه، وتوقفًا مؤقتًا للعمليات. لكن انهيار المحادثات بعد انتخابات 2015 وانفجار الوضع في سوريا أعاد الأمور إلى مربع الصراع.
تطوّر المشهد بعد 2020
في العقد الأخير، تأثّرت دينامية الصراع بعوامل جديدة:
- دخول وحدات حماية الشعب (YPG) في سوريا كذراع لحزب العمال، بدعم أميركي ضد داعش
- اعتبار تركيا ذلك تهديدًا مباشرًا دفعها لتدخل عسكري في شمال سوريا
- تصاعد الجدل الدولي حول التمييز بين مقاومة مشروعة وتمرد إرهابي
- استغلال الحزب لحالة الاضطراب في العراق لتعزيز قواعده
- تنامي الخطاب الحقوقي العالمي حول القضية الكردية، ما منح الحزب مساحة رمزية
خطوة نزع السلاح… لماذا الآن؟
في مايو 2025، أعلن الحزب حلّ نفسه، استجابة لدعوة أوجلان من سجنه. ثم أتبعت الخطوة بعملية تسليم رمزية للسلاح في شمال العراق، أشعلت جدلًا في الأوساط التركية بين من يراها بداية سلام، ومن يشكّك في نية الحزب بالتحوّل المدني.
تشكيل لجنة برلمانية لمناقشة هذا الملف شكّل تحولًا سياسيًا، حيث تُعالج القضية هذه المرة ليس عبر الجيش، بل عبر القانون والدستور.
التحدّيات المستقبلية
رغم بروز مؤشرات إيجابية، إلا أن ملف العلاقة لا يزال معقّدًا، بسبب:
- عدم وجود تمثيل كردي شامل داخل البرلمان التركي
- استمرار التصنيف الأمني للحزب رغم حلّه الرسمي
- تشابك الجغرافيا العراقية والسورية في صنع الأمن الحدودي
- الانقسامات الداخلية بين الفصائل الكردية
- الحاجة لإصلاحات دستورية تُعالج المسألة الكردية من جذورها
بين اللجنة البرلمانية وذاكرة الدم
يُثبت هذا الملف أن الصراع بين تركيا وحزب العمال لم يكن مجرد تمرّد عسكري، بل انعكاس لفشل بنيوي في إدماج أحد مكوّنات الهوية الوطنية. ونزع السلاح، رغم رمزيته، لا ينهي النزاع إلا إذا واكبته مصالحة سياسية، وتمثيل مدني، واعتراف مؤسّسي بالحق في الاختلاف والتعددية.
فهل تكون لجنة البرلمان مدخلًا لإنهاء نصف قرن من التوتر؟ أم مجرد فاصل مؤقت في سردية صراع تعود جذوره لأعمق مما يظهر في الأخبار؟