دمشق تحترق على مهل
لم تعد إسرائيل تخفي استراتيجيتها المعتمدة منذ سنوات في سوريا: إشعال الفوضى حيثما أمكن، واستثمار أي شرارة صغيرة لتتحول إلى حريق واسع. فكيف إذا كان المسرح هذه المرة هو محيط دمشق، وتحديدًا جرمانا وصحنايا، المنطقتان المحمّلتان بأبعاد طائفية واجتماعية حساسة؟ الضربات الأخيرة التي نفذتها تل أبيب بالتزامن مع اشتباكات عنيفة تكشف وجهًا جديدًا للعبة الخفية… فهل نحن أمام خطة منظمة لنسف الاستقرار من الداخل؟
الشرارة: تسجيل صوتي أم عملية مخابراتية؟
القصة بدأت مع تسريب تسجيل صوتي منسوب للشيخ مروان كيوان، أحد كبار مشايخ الطائفة الدرزية. لكن مصادر مطلعة أكدت أن التسجيل لم يصدر عن كيوان نفسه بل جرى تلفيقه من شخص يُدعى فؤاد مراد، مقيم في هولندا ومعروف بعلاقته السابقة مع ضباط النظام، تحديدًا العميد عصام زهر الدين. اللافت أن التسجيل لم يكتفِ بانتقاد الحكومة، بل تعمد استفزاز الغرائز الطائفية والدينية بألفاظ تمس الرسول الكريم بشكل مباشر.
لم يكن مفاجئًا أن يتحول التسجيل إلى فتيل لاشتباكات في جامعة حمص، ثم يمتد الحريق إلى جرمانا، فصحنايا، في مشهد يوحي بأن القصة أبعد بكثير من مجرد “سوء فهم”… كانت الخطة واضحة: صناعة فتنة قابلة للانفجار.
كيف تدحرجت كرة اللهب؟
بعد ساعات من انتشار التسجيل، اندلعت الاشتباكات المسلحة عند حاجز النسيم الفاصل بين جرمانا والغوطة الشرقية، وسقط قتلى وجرحى وسط حالة من التجييش الإعلامي والشعبي. وتوالت الأحداث بسرعة توحي بأنها كانت معدّة سلفًا، بل يمكن القول إن التسجيل جاء ليعطي الغطاء الإعلامي لحركة عسكرية مبيتة. جرمانا، التي تشكل خليطًا طائفيًا واجتماعيًا حساسًا، تحولت إلى ساحة اشتباكات انتقلت لاحقًا إلى صحنايا، حيث دخلت الفوضى مرحلة أشد خطورة.
رد الحكومة السورية: سياسة ضبط النفس الحذرة
منذ اللحظة الأولى، أدركت القيادة السورية خطورة الانجرار إلى مواجهة مفتوحة قد تضعها في خانة المتهم. لذلك، لجأت إلى تكتيك محكم: منع التصعيد الميداني وتحييد الجماعات المسلحة غير الرسمية، وخاصة تلك الموالية للنظام التي حاولت الاستثمار في الفوضى. الأهم أن الحكومة استطاعت عزل بؤر التوتر، ونجحت في قطع الطريق أمام محاولات إدخال تعزيزات من السويداء إلى دمشق.
من جهة أخرى، تم تفعيل ورقة “الحكمة المجتمعية”، عبر إشراك مشايخ ووجهاء الطائفة الدرزية في احتواء الأزمة، مما أربك حسابات الجهات الخارجية التي كانت تراهن على تصعيد مفتوح.
هل إسرائيل وحدها في المشهد؟
من السذاجة الاعتقاد أن تل أبيب وحدها تدير هذه اللعبة. الواقع أكثر تعقيدًا: هناك دول إقليمية لها مصلحة في تفكيك سوريا إلى كانتونات مذهبية وإدارية، بحيث تتحول الدولة إلى مجرد هيكل هش. واللافت هنا أن إسرائيل لا تمانع أحيانًا التعاون غير المباشر مع أعدائها التقليديين إذا كان ذلك يخدم هدفها النهائي: إضعاف دمشق وتحييدها عن المعادلات الإقليمية.
ما الذي تريده إسرائيل حقًا؟
الهدف الاستراتيجي واضح: خلق بيئة غير مستقرة قرب حدودها، وإبقاء الحكومة السورية في حالة إنهاك دائم. وكلما زادت الضغوط الأمنية والميدانية على دمشق، زادت قدرة إسرائيل على فرض شروطها في أي مفاوضات قادمة. تل أبيب تعتقد أن الوقت يعمل لصالحها، فهي تربح مع كل أزمة تؤخر إعادة إعمار سوريا وتعيد تشكيل الدولة المركزية.
لكن التجربة أظهرت أن دمشق – رغم ما تمر به من أزمات خانقة – ما زالت قادرة على امتصاص الصدمات وإعادة ترتيب أوراقها، ولو إلى حين.
لعبة النار مستمرة
ما جرى في جرمانا وصحنايا ليس مجرد حادث عرضي، بل حلقة في سلسلة طويلة من محاولات تفكيك سوريا من الداخل. بين رسائل الصوت والطائرات المقاتلة، وبين اشتباكات الشوارع وحملات التضليل الإعلامي، تظل الحقيقة الثابتة أن الفوضى باتت سلاحًا مفضلًا في يد إسرائيل وحلفائها الإقليميين. السؤال الذي يبقى: إلى متى ستظل سوريا ساحة مكشوفة لهذا العبث… وأين ستنطلق الشرارة القادمة؟